الموضوعية في علم النفس
تناول المقال الحالي توضيح الموضوعية في علم النفس ومفهوم الموضوعية في علم النفس والذاتية في علم النفس بصورة مفصلة.
تختلف الموضوعية عن الذاتية في علم النفس فتُعرف الموضوعية على أنها تناول الظاهرة من منظور علمي مبني على أسس البحث العلمي مع تجنب التحيز الثقافي، العقلي والمجتمعي للوصول إلى النتائج النهائية المرجوة. في حين تم تعريف الذاتية على أنها النظر في الأمور وتحليل الظواهر من وجهة نظر الباحث العلمي أي بوجود تأثير لرأي ومعتقدات الباحث الشخصية مما يؤثر على النتائج.
الموضوعية في علم النفس
يقصد بالموضوعية توخي الدقة والأمانة في تسجيل الوقائع، والأحداث وفي جمعها وعرضها وتفسيرها والحكم عليها بحيث يتجرد الباحث من ميوله الذاتية وأهواله الشخصية وآرائه ومعتقداته وأفكاره، ويقف موقفا محايدا من الناحية الانفعالية. ويعد التجريب والملاحظة من الوسائل الموضوعية، ولذلك فإن الباحث يوجه اهتمامه إلى الأحداث الخارجية الكلام والمشي والحركات وكل مظاهر السلوك التي يمكن تسجيلها بدقة ولكن هناك أحداثا داخلية هامة لا يمكن دراستها دراسة موضوعية صرفة، ومن أمثلة ذلك الشعور أو المشاعر والأفكار والرؤية وما إلى ذلك. ولكن مع ذلك تستطيع أن تكون موضوعياً مع نفسك إلى أقصى درجة تستطيع أن تصل إليها في وصف مثل هذه الخبرات الذاتية.
ولكن هذه الخبرات تختلف عندما توجه انتباهك لها لأن الذات في هذه الحالة تنقسم إلى ملاحظة وملاحظ أو مشاهدة ومشاهد أو فاحص ومفحوص، فأنت إذا كنت غاضبا ثائراً ثم أخذت في وصف حالة الغضب هذه فإن حدة الغضب تخف عندك ولا يمكن أن يتساوى غضبك قبل أن تنتبه إليه مع غضبك بعد أن أخذت في التأمل فيه ودراسته. هذه الطريقة في فحص الذات أو في تأمل الذات أو ملاحظتها هي ما أطلق عليه علماء النفس منهج الاستبطان. ولقد كان الاستبطان هو المنهج الرئيسي السائد عند علماء النفس الأوائل في دراستهم للطبيعة الإنسانية، ولكن من وجهة نظر علم النفس الحديث تبين أن هذا المنهج تعتريه وجوه النقص الآتية:
- إن التأمل الذاتي يغير من الخبرة الذاتية الداخلية.
- إن نتائجه لا يمكن لشخص آخر أن يتحقق من صحتها فلا يستطيع شخص أخر أن يشعر بما تشعر به أنت.
- لا يصلح هذا المنهج للاستخدام مع الحيوانات والأطفال وضعاف العقول أو مع الكبار الذين يعجزون عن التعبير اللفظي كالصم والبكم والأميين والأجانب.
- لا يصلح هذا المنهج للكشف عن المناشط العقلية اللاشعورية أي التي لا يشعر بها الفرد ولا يعترف بها ولا يفطن لوجودها ومن ثم لا يستطيع وصفها.
وهنا تتساءل هل يوجد حقيقة ما يسمى باللاشعور أو بالعقل الباطن؟. ومن الأدلة التي تبرهن على وجود اللاشعور حالة التنويم المغناطيسي أو ظاهرة التنويم المغناطيسي تلك الحالة التي يعرفها السيكلوجي بأنها حانة من القابلية للاستهواء الزائد التي يضعف فيها تحكم الفرد الواعي في سلوكه ويقبل على المستوى اللاشعوري الاقتراحات والآراء التي يقدمها له الشخص الذي قام بتنويمه. والواقع أن هناك كثيرا من جوانب ظاهرة التنويم المغناطيسي التي ما زالت غامضة وتحتاج إلى تفسير. فنحن نعرف على سبيل المثال أن الفرد يستطيع أن يتذكر تحت التنويم المغناطيسي الأمور التي تكمن في عقله الباطن والتي طواها النسيان منذ أمد بعيد، ولكنه يتذكرها وتطفو على حيز الذاكرة الواعية. ولقد دل التجريب على أن الكبار الراشدين الذين تتراوح أعمارهم من عشرين إلى أربعين عاما يستطيعون عن طريق التنويم أن يسترجعوا أسماء وأماكن وأحداثا حدثت في طفولتهم حتى سن ٦ سنوات يستطيعون أن يسترجعوا تلك الخبرات التي لم ينجحوا في تذكرها دون أن يقعوا تحت تأثير التنويم المغناطيسي. ويتوقف نجاح المحلل في تنويم العميل على مدى استعداد العميل نفسه لتقيل الإيحاء والاستعداد للنوم، فلا يمكن تنويم أي شخص رغم إرادته.
وإن كان هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يقاوم فيها الفرد التنويم ولكله رغم ذلك يخضع له. ومن خصائص هذه العملية أن الشخص العميل يقبل اقتراحات وإيحاءات المحلل ويقبل أن ينفذها بعد ذلك في حالة اليقظة أو في حالة الرعي، ويطلق على ذلك أسم الإيحاء البعدي ويميل العميل إلى تطبيق ما يوصي به. ويذكر أحد علماء النفس أنه نوم شخصا تنويما مغناطيسيا طلب منه بعد أن يستيقظ ويذهب إلى منزله أن يأخذ الفازة الموضوع بها الورد من فوق الشباك وأن يلفها في قطعة من القماش، وأن يضعها فوق الأريكة ثم ينحني إليها ثلاث مرات. وقد ذهب العميل ونفذ ذلك حرفيا وعندما سأله عن السبب أجاب قائلا: إنك تعلم أنني عندما استيقظت رأيت الفازة هناك، واعتقدت أنه بما أن الجو كان باردا فإنه من الأفضل أن أدفيء الفازة قليلا إلا سيموت ما بها من ورد، ومن أجل ذلك أدفئها بقطعة من القماش، وبعد ذلك فكرت أن الأريكة كانت بجوار المدفأة ولذلك وضعت الفازة عليها ثم انحنيت إعجابا بنفسي إذ كيف أتوصل إلى مثل هذه الفكرة الذكية؟.
ويلاحظ أن الشخص في حالة التنويم المغناطيسي يميل إلى اختراع الأسباب والمبررات التي تجعل من المحتم عليه أن ينفذ ما يوحي به إليه. هذه النزعة في التبرير حقيقة هامة من حقائق الطبيعة البشرية، ومعناها أن يخلق الفرد أسبابا وهمية لتحل محل الأسباب الحقيقية التي تدفعه السلوك. والحقيقة أن النزعات اللاشعورية تستطيع أن تؤثر في نزعات ومظاهر السلوك الشعورية. ولكن منهج الاستيطان لا يزيد عن كونه خبرة شخصية، لا يستطيع أن يمدنا بالمعطيات العلمية، ولا تعد المعلومات التي تحصل عليها من التراث السيكلوجي إلا إذا حصنا عليها باستخدام مناهج البحث العلمية تلك الطرق الموضوعية التي حلت محل الطرق الاستنباطية الذاتية.
مراجع يمكن الرجوع إليها:
- العيسوي، عبد الرحمن (1997). أصول البحث السيكولوجي. لبنان: دار الراتب الجامعية.